معرفة الجمل

الجِمال والأمن البيولوجي: محفزات لاستقلال السعودية في الغذاء والدواء

في عالم يزداد تعرضًا لاضطرابات سلاسل التوريد، والأوبئة، وتغير المناخ، أصبح مفهوم “الأمن البيولوجي” جزءًا أساسيًا من السياسات الوطنية وركيزة أساسية للمرونة الاقتصادية، لا مجرد قضية صحية،خصوصًا في ظل طموحات رؤية المملكة 2030. ومن أبرز الحلفاء غير المتوقعين في هذا المسعى: الجمل.

كان الجملُ إرثاً من الماضي، ولكنه اليوم أكثر من ذلك، مفتاحٌ للسيادة المستقبلية في الغذاء والدواء، وبفضل قدرته على التكيّف، وخصائصه البيولوجية الفريدة، وقيمته الثقافية، يُعاد تعريف الجمل كمورد استراتيجي في مسيرة المملكة العربية السعودية نحو الاستقلال في حقل التقنية الحيوية.

تطور مفهوم الأمن البيولوجي

لطالما ارتبط مفهوم “الأمن البيولوجي” بالتدابير الوقائية ضد الكائنات الحية الضارة، مثل عوامل الحرب البيولوجية، أو الأوبئة الحيوانية، أو آفات الزراعة، إلا أن التعريف الحديث أوسع من ذلك، إذ يشمل قدرة الدولة على إنتاج مواردها البيولوجية وحمايتها والوصول إليها، مثل البروتينات الغذائية، واللقاحات، والعقاقير الحيوية (FAO، 2021).

وفقًا لهذا المفهوم الموسع، تُعدّ التكنولوجيا الحيوية ركيزة أساسية للمرونة الوطنية، وتلعب الجِمال دورًا بالغ الأهمية في هذا النظام، لا سيما في المملكة العربية السعودية.

موارد غذائية مشتقة من الجِمال لتعزيز الأمن الغذائي

يمثل الإنتاج المحلي والمستدام للغذاء الغني بالعناصر الغذائية الخطوة الأولى نحو تحقيق الأمن الغذائي. وهنا يبرز حليب الإبل كخيار قوي؛ فهو ليس فقط بديلًا مغذيًا يمكن تحمله من قبل المصابين بعدم تحمل اللاكتوز، بل هو بديلٌ أقدر على مقاومة اضطرابات سلاسل التوريد، نظرًا لانخفاض متطلبات الجِمال من الماء والعلف. ويحتوي حليب الإبل على نسبة فيتامين C تفوق حليب البقر بثلاث إلى خمس مرات، إضافة إلى غناه بالحديد والكالسيوم والدهون غير المشبعة (Yagil، 1982).

كما أن الجِمال أكثر تكيفًا مع البيئة الجافة في شبه الجزيرة العربية مقارنة بالأبقار أو الأغنام، ما يجعلها مثالية لمستقبل الإنتاج الغذائي في ظل التصحر ونقص المياه.

تحتضن السعودية أكبر عدد من الجِمال في العالم، وقد أثبتت شركات مثل “نادك” و”Camelicious” الجدوى الاقتصادية لصناعة ألبان الجِمال. ومن خلال الاستثمار في سلاسل التبريد وتقنيات التصنيع الغذائي، يمكن لحليب الإبل الجمل أن يكون حجر الأساس لقطاع غذائي وظيفي محلي، يقلّل من الاعتماد على واردات الألبان.

السيادة الدوائية من خلال التكنولوجيا الحيوية للجِمال

أظهرت جائحة كوفيد-19 أهمية الاستقلال الدوائي. فقد وجدت العديد من الدول نفسها في حالة انتظار للّقاحات بسبب تعطل سلاسل التوريد العالمية. وقد استجابت المملكة بسرعة، معلنة خططًا لتعزيز قطاع التقنية الحيوية وتوطين إنتاج اللقاحات.

يمكن للجِمال أن تدعم هذا التوجه استراتيجيًا بثلاث طرق:

١. هندسة الأجسام النانوية

تنتج الجِمال أجسامًا نانوية طبيعية (nanobodies) وهي أجسام مضادة صغيرة النطاق، أكثر ثباتًا وأسهل تصنيعًا من الأجسام التقليدية، وقد أظهرت هذه الأجسام قدرة على تحييد فيروسات مثل SARS-CoV-2 (Dong et al.، 2020)، ما يجعلها مرشحة لتكون أساسًا لمنصات تصنيع أدوية سريعة الاستجابة.

٢. منصات إنتاج بيولوجية

يمكن استخدام حليب الإبل كمنصة بيولوجية لإنتاج بروتينات علاجية مثل الإنسولين المؤتلف أو الأدوية المضادة للالتهاب، هذا التوجه يتماشى مع أهداف السعودية لإنتاج أدوية متوافقة مع الشريعة وتراعي الخصوصية الثقافية.

٣. نمذجة الأمراض الحيوانية المنشأ

بما أن الجِمال من الحواضن الوسيطة لفيروس MERS-CoV، فإن دراستها تعزز فهمنا لمسارات انتقال الأمراض الحيوانية إلى البشر، وبفضل تحسين أنظمة مراقبة صحة الجِمال، يمكن للمملكة العربية السعودية أن تصبح مركزًا إقليميًا لبحوث الأمراض الحيوانية المنشأ، وهو ما يعد عنصرًا أساسيًا في الأمن البيولوجي العالمي.

الجسر بين العلم الحديث والإرث الثقافي

تربط الجملَ بالمملكة صلةٌ تاريخية وثقافية وثيقة، وإدراج الجمل في إستراتيجيات الأمن البيولوجي يمنح هذه الإستراتيجيات قبولاً شعبياً ومصداقية ثقافية، إضافة إلى تحقيقه لأهداف علمية واقتصادية متعددة.

من المنطقي والممكن علمياً أن تصبح الأجسام النانوية المستخرجة من الجمل من أبرز الصادرات الدوائية السعودية، وأن تساهم مكملات حليب الإبل في تقليل اعتماد البلاد على البروتينات المستوردة، لكن هناك المزيد.. فمثل هذه الإفادة من الجمل تعمّق الانتماء الحضاري والأصالة الثقافية وتحمل دلالات قوية على صعيد الهوية الوطنية.

التحديات والمسار إلى الأمام

لا تزال هناك عقبات أمام دمج الجِمال في إطار الأمن البيولوجي الوطني:

  • نقص في بروتوكولات البحث الموحدة للمنتجات المستخلصة من الجِمال
  • غموض في اللوائح الخاصة بالعلاجات الجديدة المشتقة من كائنات غير تقليدية
  • ضعف التعاون بين القطاعات الغذائية والطبية والبيطرية

لكن هذه التحديات قابلة للحل، إذ يمكن للمملكة تحويل الجمل إلى ركيزة بيولوجية، بالدعم الحكومي الفعال، والبحث العلمي متعدد التخصصات، وإسهام القطاع الخاص وابتكاراته.

من الإرث إلى السيادة

الجمل ليس فقط رمزًا من رموز التراث، بل مرشح لأن يكون أحد أعمدة المستقبل في المملكة. ومن خلال تسخير التكنولوجيا الحيوية المستندة إلى الجِمال، تستطيع المملكة العربية السعودية تعزيز أمنها البيولوجي، وتحقيق استقلال وظيفي في مجالات حيوية، وتصدير حلول ذات طابع ثقافي أصيل إلى العالم.

في عالم لا يمكن التنبؤ بتغيراته، ستكون الدول التي تسيطر على مواردها البيولوجية هي الأكثر قدرة على رسم المستقبل. وقد حان الوقت للجمل ليكون جزءاً فاعلاً من مشهد التقنية الحيوية في المملكة.

المراجع

  • Dong, J., Huang, B., Wang, B., وآخرون. (2020). تطوير أجسام نانوية مؤنسنة تستهدف المجال الرابط لمستقبلات SARS-CoV-2. Science Bulletin، 65(24)، 2125–2131.
  • (2021). الأمن البيولوجي للزراعة وإنتاج الغذاء. منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. تم الاسترجاع من:http://www.fao.org/biosecurity
  • Yagil, R. (1982). الجِمال وحليب الجمل. ورقة الإنتاج والصحة الحيوانية رقم 26. روما: منظمة الأغذية والزراعة.