معرفة الجمل

الجمل كنموذج للكائنات الحية: التكيف الجيني ومعجزات مناعية

تهيمن كائنات نموذجية مثل سمك الزرد وذبابة الفاكهة والفئران على بيئة المختبر في مجال البحث الطبي الحيوي، وقد لعبت دورًا أساسيًا في فك ألغاز الاستجابة للأدوية، والأمراض، والجينات. لكن، ماذا لو كان التطور القادم في الكائنات النموذجية لا يقتصر على المختبرات المعقّمة والمكيّفة؟ ماذا لو كان يعيش في صحارى الجزيرة العربية، متكيفًا مع ظروف قاتلة لمعظم الكائنات الأخرى؟

يُعد الجمل مستودعًا حيًا للتكيفات الجينية والمناعية، ما يمنحه القدرة على إعادة تعريف مفهوم “الكائن الحي النموذجي”. فهو أكثر من رمز ثقافي أو وسيلة نقل بدائية. إنه مرشح ليكون مكوناً رئيساً في الأبحاث العلمية مع سعي المملكة العربية السعودية لترسيخ مكانتها كقائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية.

أهمية الكائنات النموذجية في البحث العلمي:

يتم استخدام الكائنات النموذجية بدلًا من البشر في الدراسات العلمية. وبفضل تشابهها الجسدي أو الفيزيولوجي أو الجيني مع الإنسان، يمكن للعلماء اختبار الفرضيات، ودراسة الأمراض، وتطوير العلاجات. لكن لهذه الكائنات حدود، إذ لا تتحمل الظروف البيئية القاسية، كما تفتقر بعض أنواعها إلى أنظمة مناعية متقدمة أو آليات استجابة فعّالة للتوتر البيئي.

هنا يبرز تميز الجمل. فقد خُلق وهيئ للبقاء في البيئات الصحراوية القاسية، وهي خصائص ذات صلة مباشرة بالتحديات المعاصرة في علم المناعة، والأمراض الأيضية، وبيولوجيا الإجهاد البيئي.

قوى جينية خارقة في بيئة قاسية

شهد علم الجينوم المقارن تطورًا ملحوظًا في عام 2014 مع نشر تسلسل الجينوم الخاص بالجمل. وقد اكتشف الباحثون وجود جينات فريدة لدى الجمل تتعلق بأيض الدهون، وتحمل الملوحة، والحفاظ على الماء، ومن الممكن أن تسهم هذه السمات في تقدمات في التكنولوجيا الحيوية الزراعية والطب البشري (Wu et al., 2014).

فعلى سبيل المثال، يستطيع الجمل شرب ما يصل إلى 100 لتر من الماء دفعة واحدة وتخزينه بكفاءة في أنسجته دون التسبب بتخفيف بلازما الدم، كما تسمح خلايا دمه الحمراء البيضاوية بالتدفق السلس حتى في حالات الجفاف الشديد، وتتمتع كليتاه بقدرة عالية على إعادة امتصاص الماء (Yagil, 1982). وقد يؤدي الفهم الجزيئي لهذه الآليات إلى تطوير علاجات لأمراض الكلى، والجفاف في حالات الطوارئ، وحتى في الطب الفضائي.

كما أن قدرة الجمل على الحفاظ على مستويات الغلوكوز رغم تراكم الدهون العالية، أمرٌ يهم الباحثين في مرض السكري والسمنة، وهما مرضان شائعان في منطقة الخليج.

معجزات مناعية: الأجسام النانوية وما بعدها

يُعد جهاز الجمل المناعي أحد أقوى الحجج لاعتماده نموذجاً بحثياًه على عكس معظم الحيوانات، تنتج الجِمال (إضافة إلى اللاما والألباكا) أجسامًا نانوية، وهي أجزاء صغيرة وثابتة من الأجسام المضادة، يسهل تصنيعها بكميات كبيرة:

  • تتميز هذه الأجسام النانوية بثباتها الحراري، ما يجعلها مثالية في الأماكن التي تفتقر إلى التبريد.
  • ويسمح لها صغر حجمها  بالوصول إلى أهداف جزيئية لا تستطيع الأجسام المضادة التقليدية الوصول إليها.
  • كما أنها شديدة التخصص، ما يجعلها مثالية للاستخدامات العلاجية والتشخيصية.

وقد تم بالفعل تطوير أدوية لعلاج أمراض مناعية وأمراض معدية وسرطانات باستخدام أجسام الجِمال النانوية (Muyldermans, 2013). 

وخلال جائحة كوفيد-19، درس الباحثون قدرة أجسام الجِمال المضادة على تدمير فيروسات كورونا، مثل MERS-CoV وSARS-CoV-2 (Dong et al., 2020).

الجِمل والاستخبارات الوبائية

تُعد الجِمال حيوانات مضيفة وسيطة معروفة لفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS-CoV)، الذي ظهر لأول مرة في السعودية عام 2012. ورغم أن هذا الدور يبدو سلبيًا، إلا أن له قيمة علمية كبيرة.

فدراسة كيفية استجابة جهاز الجمل المناعي لفيروسات كورونا قد تكشف معلومات مهمة حول:

  • المناعة الفطرية ضد الفيروسات.
  • ديناميكيات التفاعل بين العائل والممرض.
  • مسارات انتقال الأمراض الحيوانية المنشأ.

وقد تتمكّن المملكة العربية السعودية من بناء نماذج مراقبة صحية قائمة على الجِمال، مما يؤهلها لتكون مركزًا إقليميًا لأبحاث الأمراض الحيوانية المنشأ والاستعداد للأوبئة، بما يتماشى مع أهداف الأمن الصحي العالمي.

لماذا يعد الجمل مثاليًا لرؤية المملكة البحثية؟

تتميز المملكة ببنية تحتية وثقافة وجغرافيا تجعلها البيئة المثالية للأبحاث المتعلقة بالجِمال. فبعكس الحيوانات المستوردة التي تحتاج إلى ظروف خاصة، تتوفر الجِمال محليًا بكثرة، وهي متجذرة في الهوية الوطنية.

ويمكن استخدام الجِمال كنماذج حية في:

  • اختبار الجينات والعلاجات المصممة للبيئة الصحراوية، بدعم من استثمارات في الجينوم، والذكاء الاصطناعي، والطب الشخصي.
  • تحسين الإنتاج الحيواني والصحة العامة عبر تقنيات تربية دقيقة.
  • استلهام تصاميم حيوية مبتكرة مستندة إلى قدرات التكيّف الحراري، وكفاءة الطاقة، واحتباس الماء.

التحديات والمسار المستقبلي

لكي تصبح الجِمال كائنات نموذجية معتمدة عالميًا، سيكون من الضروري تطوير أدوات وراثية، مثل مكتبات CRISPR خاصة بجينوم الجمل.

  • تطوير إجراءات مختبرية موحدة لزراعة الخلايا والأنسجة الجملية.
  • تعزيز الشراكات متعددة التخصصات بين التكنولوجيا الحيوية والطب البشري والطب البيطري.
  • تغيير النظرة العلمية العالمية التي لا تزال ترى في الجمل كائنًا غريبًا بدلًا من نموذج بحثي فاعل.

الخاتمة: إعادة رسم خارطة الكائنات النموذجية

قد لا تكون الكائنات النموذجية التقليدية التي اعتمدنا عليها لعقود هي الأفضل لأبحاث التقنية الحيوية المستقبلية. في ظل تعقّد الأمراض البشرية وتغير النظم البيئية نتيجة تغير المناخ، تُقدم الكائنات الصلبة والمتكيفة مثل الجمل فرصًا بحثية جديدة.

وإذا توفر الاستثمار الكافي والالتزام العلمي، فإن المملكة العربية السعودية قادرة على تحويل الجمل من رمز تراثي إلى محرّك حقيقي لأبحاث الطب الحيوي.

لقد آن الأوان للمجتمع العلمي أن يتجاوز الفأر ويتّجه نحو الصحراء، فالجمل قد يحمل مفاتيح الموجة القادمة من الاكتشافات الطبية.

المراجع

  • Wu, H., Guang, X., Al-Fageeh, M. B., وآخرون. (2014). الجينومات الجملية تكشف عن التكيف مع البيئات الصحراوية. Nature Communications، 5، 5188
  • Yagil, R. (1982). الجِمال وحليب الجمل. ورقة الإنتاج والصحة الحيوانية رقم 26. روما: منظمة الأغذية والزراعة
  • Muyldermans, S. (2013). الأجسام النانوية: الأجسام المضادة أحادية المجال الطبيعية. المراجعة السنوية للكيمياء الحيوية، 82، 775–797
  • Dong, J., Huang, B., Wang, B., وآخرون. (2020). تطوير أجسام نانوية مؤنسنة تستهدف المجال الرابط لمستقبلات SARS-CoV-2. Science Bulletin، 65(24)، 2125–2131