معرفة الجمل

مزايا عديدة للإبل في البيوتكنولوجيا

لطالما حظيت الفئران، وسمك الزرد، وحتى الخميرة، باهتمام واسع في سباق التكنولوجيا الحيوية العالمي. لكن هناك فصيلة واحدة غالبًا ما يتم تجاهلها: الجمل (Camelus dromedarius)، وهو حيوان ثديي قادر على الصمود في أقسى البيئات، ويتمتع بفيسيولوجيا فريدة، ونظام مناعي مميز، وكفاءة أيضية عالية. لم تعد الجِمال مجرد رموز تقليدية، بل أصبحت بوابات علمية مهمة، خاصة مع تزايد استثمارات المملكة العربية السعودية في مجالات البحث والصحة والتكنولوجيا الحيوية ضمن رؤية 2030.

ناجٍ صحراوي بقدرات تكنولوجية واعدة

يُعد الجمل كائنًا مذهلًا من الناحية البيولوجية، إذ يتمتع بقدرة فائقة على التكيّف مع البيئات القاسية، يستطيع أن يفقد حتى 30٪ من وزنه المائي دون أن يصاب بالجفاف القاتل، وهي نسبة قاتلة لمعظم الكائنات الأخرى، كما يتحمل درجات حرارة تتجاوز 40 درجة مئوية دون أن يتعرق. فما السر وراء ذلك؟ تشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذه القدرات تعود إلى مزيج معقد من التغيرات الهرمونية والكلوية والخلوية (Yousef et al., 1989؛ Al-Haidary, 2004).

وبالإضافة إلى قدرته على النجاة في الصحراء، يمتلك الجمل خصائص فيسيولوجية غنية يمكن الاستفادة منها في التكنولوجيا الحيوية. فعلى سبيل المثال، ينتج جهازه المناعي ما يُعرف بـ “الأجسام النانوية”، وهي شظايا صغيرة وثابتة من الأجسام المضادة، قادرة على الوصول إلى مواقع لا تستطيع الأجسام المضادة التقليدية الوصول إليها. وتُعد هذه الأجسام النانوية مطلوبة بشدة في التطبيقات العلاجية والتشخيصية، مثل إيصال الأدوية بشكل دقيق، واكتشاف الأمراض المعدية، وتصوير الأورام (Muyldermans, 2013).

الأجسام النانوية: كنز بيولوجي

تُعتبر الأجسام النانوية المستخلصة من الجِمال إحدى أكثر التطورات المثيرة في هندسة الأجسام المضادة اليوم، فخلافاً للأجسام المضادة التقليدية التي تتكون من سلسلتين ثقيلتين وأخرى خفيفة، تمتلك أجسام الجِمال المضادة سلاسل ثقيلة فقط. وتُعد بساطتها هذه إحدى أبرز مصادر تميزها، إذ يسهل تصنيعها، ويمكن تحويلها إلى مستشعرات حيوية، وهي أكثر استقرارًا في الظروف القاسية من حيث الحموضة والحرارة (Hamers-Casterman et al., 1993).

وقد بدأت شركات الأدوية بالفعل في إظهار اهتمام كبير. ففي عام 2018، تمت الموافقة على دواء “كابلاسيزوماب”، المعتمد على تكنولوجيا الأجسام النانوية والمستخلص من أجسام الجِمال المضادة، لعلاج حالة “قلة الصفيحات التخثرية المكتسبة” (Sanofi, 2018). وتُشكل الجِمال موردًا محليًا غير مستغل لصناعة أدوية مبتكرة تحمل أهمية بيئية وثقافية، في وقت تسعى فيه المملكة لتوسيع قطاعها البيوفارمسي.

أسرار جينية وقدرات تكيف مذهلة

لا تقتصر فرادة الجِمال على جهازها المناعي، بل تمتد إلى بنيتها الجينية المميزة. فقد أتاح تسلسل الجينوم الخاص بالجمل في عام 2010 فهمًا أعمق لآليات التكيّف لديه، من تنظيم الأنسولين والتحكم الأيضي إلى احتباس الأملاح والماء (Wu et al., 2014). وقد تُسهم هذه الاكتشافات في تطوير علاجات لمتلازمات الأيض، والسكري، وأمراض الكلى، وهي أمراض شائعة في منطقة الخليج.

إضافةً إلى ذلك، يُعرف حليب الإبل في التقاليد السعودية والبدوية بقيمته الغذائية والعلاجية، وقد أظهرت الدراسات أنه يساعد على تنظيم سكر الدم، ويقلل الالتهاب، ويعزز المناعة (Korish & Arafah, 2013؛ Malik et al., 2012). ومن الممكن أن تثمر دراسة المواد الفعالة فيه عن أغذية وظيفية جديدة ومكملات علاجية مبتكرة.

فرصة سعودية واعدة

تتمتع المملكة العربية السعودية بموقع مثالي لتكون رائدة عالميًا في مجال التكنولوجيا الحيوية المعتمدة على الجِمال. فبفضل امتلاكها لأكبر عدد من الجِمال المدجنة، واستضافتها لمهرجانات كبرى خاصة بالجِمال، وتوسع شبكة مراكز الأبحاث المرتبطة بها، تمتلك المملكة قاعدة بيولوجية ومؤسسية قوية تؤهلها للريادة.

وتتلاقى أهداف رؤية 2030 في تطوير قطاع الأدوية الإقليمي، والاستثمار في الاقتصاد المعرفي، وتنويع مصادر الدخل، مع الإمكانيات الكامنة في الجمل، من خلال الاستثمار في الجينوم، والمناعة، وتطوير المنتجات الحيوية المعتمدة على الجِمال، تستطيع المملكة ابتكار نموذج بيولوجي صحراوي مستدام ومتجذر ثقافيًا ومرتكز على البحث العلمي.

دعوة لإعادة التفكير في الجمل

لم يعد الجمل مجرد رمز من الماضي أو مكوّنًا ثقافيًا يرتبط بالحياة الصحراوية، إنه مختبر حي يحمل في داخله ملايين السنين من التكيفات البيولوجية. في عالم مهدد بالأمراض الناشئة، ونقص الغذاء، والتغير المناخي، قد تكون الحلول كامنة في كائنات مثل الجمل، في انتظار من يكتشفها.

حان الوقت للنظر إلى الجمل الصحراوي بدلًا من فأر المختبر. فالجمل يمتلك المقومات ليكون حدود التكنولوجيا الحيوية المقبلة، والمملكة العربية السعودية مرشحة لتكون مركزها العالمي، بشرط توفير الاهتمام العلمي والدعم المؤسسي اللازم.

المراجع

Al-Haidary, A. (2004). Physiological responses of camels to heat stress. International Journal of Agriculture & Biology, 6(4), 667–669
Hamers-Casterman, C., et al. (1993). Naturally occurring antibodies devoid of light chains. Nature, 363(6428), 446–448
Korish, A. A., & Arafah, M. M. (2013). Camel milk ameliorates the oxidative stress and cytokine storm in experimental type 1 diabetic rats. Journal of Medicinal Food, 16(6), 549–555
Malik, A., Al-Senaidy, A., Skrzypczak-Jankun, E., & Jankun, J. (2012). A study of the anti-diabetic agents of camel milk. International Journal of Molecular Medicine, 30(3), 585–592
Muyldermans, S. (2013). Nanobodies: Natural single-domain antibodies. Annual Review of Biochemistry, 82, 775–797
Sanofi. (2018). Sanofi receives FDA approval for Caplacizumab. [Press release]
Wu, H., Guang, X., Al-Fageeh, M. B., et al. (2014). Camelid genomes reveal evolution and adaptation to desert environments. Nature Communications, 5, 5188
Yousef, M. K., Dill, D. B., & Johnson, H. D. (1989). Physiology of the Camel. Oxford: Pergamon Press